"تقولُ مُمَرِّضتي:
كُنْتَ تهذي طويلا، وتسألني:
هل الموتُ ما تفعلين بي الآنَ،
أَم هُوَ مَوْتُ اللُغَةْ؟"
محمود درويش(جدارية)
"أنا لست لي".
"..مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن…\ لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً…\ والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ..". تقول في جداريتك الأخيرة، كأنك تعدّ تفاصيل الجنازة لقهوة الصباح. لرحيل مسبق. نعيت نفسك، لتريحنا حتى من التعب في البحث بين الكلمات العابرة عنك، عن نعش لغوي يليق بعرشك. لا تريدنا أن نتدخل في آخر أمرك، هذا الموت المشاع العام، لا تريدنا حتى أن نشترك معك فيه، فسهلت مهام الحفارين و المعزين والرثائين ومعدّي المواكب الجنائزية.
تقول هذا، لأنك بذكاء القلب المتعب، و فطرة الإحساس بالمجهول تعرف. تعرف أن غيابك وحده ما سوف يمنحنا فرصة أن نستل سيوف أقلامنا، و نتجرأ الكلام عليك و عنك و فيك، لأنك باب اللغة و محيك مفرداتها.. لكم عاونتنا على العبارة، و على مجرات الكناية و اقنعة المجاز و صحراء المعاني المشغولة بحروف مغلقة. مَن يعنا بعد اليوم على فجوة الجرح المتسعة، و قد تكوّرت اللغة وانحسرت الى دوائر الماء، الى أصفار و أرقام عملاقة متماثلة، متسلسلة الى جنين الكون. "لا شكل نهائيُ للكون..لا تاريخ للأشكال."، تقول عندما تصف الغيوم، بمهارة تدعي أنك لم تؤتها، "كالقطن تحلجه الرياح، كفكرةٍ بيضاءَ عن معنى الوجود. لعلّ آلهةً تنقِّح قصة التكوين."
و تراك ترحل و قد أعياك و أثقل قلبك أن تسمع "سجّل أنا عربي، و قد اضحت: سجّل أنا لست عربي(اً)، بل أنا أمازيغي، و أنا لبناني و ربما أكثر تفصيلاً و تنويعاً، و أنا مصري، و أنا و أنا.. وأنا غزاوي و أنا ضفاوي.. و أنا لست أنا.. "وكأنَّ شيئاً لم يكن. جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ.." تقول في جدارية الأبد..
كأنما كان لا بد أن ترحل، لكي نكتب القصيدة.. لكي نتحرر من وزن الفعل و وزر التفاعيل و أباطيل الصور و الأسماء.. لقد حاصرتنا، يا سيد الشعراء و كبلتنا، عندما افلتَّ اللغة من عقالها.. فكتبت وضوء اللغة عند باب الصلاة.
"مَنْ أَنا لأقول لكم\ ما أقولُ لكم\ مَنْ أنا؟\ ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ..\. من سوء حظّيَ أَن الصليب،
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلي غدنا!"
حاولت بفطرة العاشق الأبدي، أن تخرج من خبث مسعانا أن نحولك الى أيقونة مقدسة، أن نثبتك في مكان علوي على جدار وجودنا اللغوي..أردناك مثالاً و قائداً و بطلاً و أباً .. و شهيداً، لحروبنا المنكسرة، لأجنحتنا التي تألف المكوث بين قبور الأسلاف و الصالحين.. لا أجنحة متمردة لنا ولا نسور، لنا طوق الحمامة..لكنك كنت مشاكساً و لاعب نرد ماهر، و لك طول باع و كبير دور في المزاح مع البحر. و كنا خير مثال للضحية، و محط سخرية التاريخ، سجل الأقوياء و العابرين بالقوة الى الفعل..و كنت أنقى مرآة لعرينا.
"..لَسْتُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْياً\ وأُعْلِنَ أَنَّ هاويتي صُعُودُ."
هوذا أنت في هذا السديم، سراجٌ و صوت مدوٍّ، في ليل الأساطير الخارجة من الهياكل و الكتب القديمة."ليس للتاريخ وقتٌ للتأمل، ليس للتاريخ مرآةٌ و وجهٌ سافرٌ." تقول، و تبحر بين الجدار الفاصل بين الحاضر و الماضي.
وترى بعض كلامك لم يرق لمن راحوا في السياسة يُخرجوك من الشعر، و من البيت الذي انشق على نفسه..
لم تقتلك القضايا و إن استنزفت جلّ شعرك، و لا الموت نفسه، الذي هزمته في القصيدة، و لكن قتلتك اللغة.. وحين أسقطتنا في نفس الحفرة في الصحراء مع عدوك، سألتنا إن كنا سنتقاسم الرملَ، أَم سنتنافس على احتكار الليل؟
لكنك لم تلبث أن خطيت وصية الوداع: ".. والتاريخ يسخر من أبطاله..هذا البحرُ لي\.. شَبَحي وصاحبُهُ\.. وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي\.. لي ما كان لي. و قصاصَةُ الوَرَقِ التي، انتُزِعَتْ من الإنجيل لي..\ أَما أَنا - وقد امتلأتُ بكُلِّ أَسباب الرحيل -\ فلستُ لي .\ أَنا لَستُ لي"..
هكذا كما في كل مرة كنت تفاجئنا بتوليد المعاني من الكلمات المنهكة، كذلك هذه المرة، عندما قرأت في قصيدة المستقبل صورة و معنى رحيلك.. رحل صاحب ريتا و البندقية، و لم يبقَ بينهما سوى عيون الكلام...
>>>> منقول
كُنْتَ تهذي طويلا، وتسألني:
هل الموتُ ما تفعلين بي الآنَ،
أَم هُوَ مَوْتُ اللُغَةْ؟"
محمود درويش(جدارية)
"أنا لست لي".
"..مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن…\ لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً…\ والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ..". تقول في جداريتك الأخيرة، كأنك تعدّ تفاصيل الجنازة لقهوة الصباح. لرحيل مسبق. نعيت نفسك، لتريحنا حتى من التعب في البحث بين الكلمات العابرة عنك، عن نعش لغوي يليق بعرشك. لا تريدنا أن نتدخل في آخر أمرك، هذا الموت المشاع العام، لا تريدنا حتى أن نشترك معك فيه، فسهلت مهام الحفارين و المعزين والرثائين ومعدّي المواكب الجنائزية.
تقول هذا، لأنك بذكاء القلب المتعب، و فطرة الإحساس بالمجهول تعرف. تعرف أن غيابك وحده ما سوف يمنحنا فرصة أن نستل سيوف أقلامنا، و نتجرأ الكلام عليك و عنك و فيك، لأنك باب اللغة و محيك مفرداتها.. لكم عاونتنا على العبارة، و على مجرات الكناية و اقنعة المجاز و صحراء المعاني المشغولة بحروف مغلقة. مَن يعنا بعد اليوم على فجوة الجرح المتسعة، و قد تكوّرت اللغة وانحسرت الى دوائر الماء، الى أصفار و أرقام عملاقة متماثلة، متسلسلة الى جنين الكون. "لا شكل نهائيُ للكون..لا تاريخ للأشكال."، تقول عندما تصف الغيوم، بمهارة تدعي أنك لم تؤتها، "كالقطن تحلجه الرياح، كفكرةٍ بيضاءَ عن معنى الوجود. لعلّ آلهةً تنقِّح قصة التكوين."
و تراك ترحل و قد أعياك و أثقل قلبك أن تسمع "سجّل أنا عربي، و قد اضحت: سجّل أنا لست عربي(اً)، بل أنا أمازيغي، و أنا لبناني و ربما أكثر تفصيلاً و تنويعاً، و أنا مصري، و أنا و أنا.. وأنا غزاوي و أنا ضفاوي.. و أنا لست أنا.. "وكأنَّ شيئاً لم يكن. جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ.." تقول في جدارية الأبد..
كأنما كان لا بد أن ترحل، لكي نكتب القصيدة.. لكي نتحرر من وزن الفعل و وزر التفاعيل و أباطيل الصور و الأسماء.. لقد حاصرتنا، يا سيد الشعراء و كبلتنا، عندما افلتَّ اللغة من عقالها.. فكتبت وضوء اللغة عند باب الصلاة.
"مَنْ أَنا لأقول لكم\ ما أقولُ لكم\ مَنْ أنا؟\ ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ..\. من سوء حظّيَ أَن الصليب،
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلي غدنا!"
حاولت بفطرة العاشق الأبدي، أن تخرج من خبث مسعانا أن نحولك الى أيقونة مقدسة، أن نثبتك في مكان علوي على جدار وجودنا اللغوي..أردناك مثالاً و قائداً و بطلاً و أباً .. و شهيداً، لحروبنا المنكسرة، لأجنحتنا التي تألف المكوث بين قبور الأسلاف و الصالحين.. لا أجنحة متمردة لنا ولا نسور، لنا طوق الحمامة..لكنك كنت مشاكساً و لاعب نرد ماهر، و لك طول باع و كبير دور في المزاح مع البحر. و كنا خير مثال للضحية، و محط سخرية التاريخ، سجل الأقوياء و العابرين بالقوة الى الفعل..و كنت أنقى مرآة لعرينا.
"..لَسْتُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْياً\ وأُعْلِنَ أَنَّ هاويتي صُعُودُ."
هوذا أنت في هذا السديم، سراجٌ و صوت مدوٍّ، في ليل الأساطير الخارجة من الهياكل و الكتب القديمة."ليس للتاريخ وقتٌ للتأمل، ليس للتاريخ مرآةٌ و وجهٌ سافرٌ." تقول، و تبحر بين الجدار الفاصل بين الحاضر و الماضي.
وترى بعض كلامك لم يرق لمن راحوا في السياسة يُخرجوك من الشعر، و من البيت الذي انشق على نفسه..
لم تقتلك القضايا و إن استنزفت جلّ شعرك، و لا الموت نفسه، الذي هزمته في القصيدة، و لكن قتلتك اللغة.. وحين أسقطتنا في نفس الحفرة في الصحراء مع عدوك، سألتنا إن كنا سنتقاسم الرملَ، أَم سنتنافس على احتكار الليل؟
لكنك لم تلبث أن خطيت وصية الوداع: ".. والتاريخ يسخر من أبطاله..هذا البحرُ لي\.. شَبَحي وصاحبُهُ\.. وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي\.. لي ما كان لي. و قصاصَةُ الوَرَقِ التي، انتُزِعَتْ من الإنجيل لي..\ أَما أَنا - وقد امتلأتُ بكُلِّ أَسباب الرحيل -\ فلستُ لي .\ أَنا لَستُ لي"..
هكذا كما في كل مرة كنت تفاجئنا بتوليد المعاني من الكلمات المنهكة، كذلك هذه المرة، عندما قرأت في قصيدة المستقبل صورة و معنى رحيلك.. رحل صاحب ريتا و البندقية، و لم يبقَ بينهما سوى عيون الكلام...
>>>> منقول